فصل: فصـل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصـل

وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين، الذي هو الإقرار باللّه، وعبادته وحده لا شريك له، ومخاصمة من كفر باللّه‏.‏

فأما إبراهيم فقال اللّه فيه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

وذكر اللّه عنه أنه طلب منه إرادة إحياء الموتى، فأمره اللّه بأخذ أربعة من الطير‏.‏

فقرر أمر الخلق والبعث، المبدأ والمعاد، الإيمان باللّه واليوم الآخر‏.‏

وهما اللذان يكفر بهما ـ أو بأحدهما ـ كفار الصابئة والمشركين من الفلاسفة ونحوهم الذين بعث الخليل إلى نوعهم‏.‏

فإن منهم من ينكر وجود الصانع؛ وفيهم من ينكر صفاته، وفيهم من ينكر خلقه ويقول‏:‏ إنه عِلَّة، وأكثرهم ينكرون إحياء الموتى‏.‏ وهم مشركون يعبدون الكواكب العلوية والأصنام السفلية‏.‏

والخليل ـ صلوات اللّه عليه ـ رد هذا جميعه‏.‏ فقرر ربوبية ربه كما في هذه الآية‏.‏ وقرر الإخلاص له ونفي الشرك كما في سورة الأنعام وغيرها‏.‏ وقرر البعث بعد الموت‏.‏

واستقر في ملته محبته للّه، ومحبة اللّه له، باتخاذ اللّه له خليلًا‏.‏

/ ثم إنه ناظر المشركين بعبادة من لا يوصف بصفات الكمال‏.‏ فقال لأبيه‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال لأبيه وقومه‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 70 - 81‏]‏، إلى آخر الكلام‏.‏

وقال‏:‏‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 - 28‏]‏‏.‏

فإبراهيم دعا إلى الفطرة‏.‏وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له‏.‏وهو الإسلام العام، والإقرار بصفات الكمال للّه، والرد على من عبد من سلبها‏.‏

فلما عابهم بعبادة من لا علم له ولا يسمع ولا يبصر قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفي عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

/ ولما عابهم بعبادة من لا يغنى شيئًا فلا ينفع ولا يضر قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78 - 82‏]‏‏.‏

فإن الإنسان يحتاج إلى جلب المنفعة لقلبه وجسمه، ودفع المضرة عن ذلك‏.‏ وهو أمر الدين والدنيا‏.‏

فمنفعة الدين الهدى، ومضرته الذنوب، ودفع المضرة المغفرة؛ ولهذا جمع بين التوحيد والاستغفار في مواضع متعددة‏.‏

ومنفعة الجسد الطعام والشراب، ومضرته المرض، ودفع المضرة الشفاء‏.‏

وأخبر أن ربه يحيى ويميت، وأنه فطر السموات والأرض، وإحياؤه فوق كماله بأنه حى‏.‏

وأنه فطر السموات والأرض، يقتضي إمساكها وقيامها الذي هو فوق كماله بأنه قائم بنفسه، حيث قال عن النجوم‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏

فإن الآفل هو الذي يغيب تارة ويظهر تارة، فليس هو قائمًا على / عبده في كل وقت‏.‏ والذين يعبدون ما سوى اللّه من الكواكب ونحوها ويتخذونها أوثانًا يكونون في وقت البزوغ طالبين سائلين، وفي وقت الأفول لا يحصل مقصودهم ولا مرادهم، فلا يجتلبون منفعة ولا يدفعون مضرة، ولا ينتفعون إذ ذاك بعبادة‏.‏

فَبَيَّن ما في الآلهة التي تعبد من دون اللّه من النقص، وبَيَّن ما لربه فاطر السموات والأرض من الكمال بأنه الخالق، الفاطر، العليم، السميع، البصير، الهادى، الرازق، المحيى، المميت‏.‏

وسمى ربه بالأسماء الحسنى الدالة على نعوت كماله، فقال‏:‏ ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏وقال‏:‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏، فوصف ربه بالحكمة والرحمة المناسب لمعنى الخلة، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏‏.‏

وموسى ـ عليه السلام ـ خاصم فرعون الذي جحد الربوبية والرسالة وقال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، و ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، وقصته في القرآن مثناة مبسوطة لا يحتاج هذا الموضع إلى بسطها‏.‏

وقرر ـ أيضًا ـ أمر الربوبية وصفات الكمال للّه ونفي الشرك‏.‏

/ ولما اتخذ قومه العجل بَيَّن اللّه لهم صفات النقص التي تنافي الألوهية فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، وقال‏:‏‏{‏فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88 - 90‏]‏‏.‏

فوصفه بأنه وإن كان قد صوت صوتا هو خوار فإنه لا يكلمهم، ولا يرجع إليهم قولا، وأنه لا يهديهم سبيلا، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا‏.‏

وكذلك ذكر اللّه ـ سبحانه ـ على لسان محمد في الشرك ـ عمومًا وخصوصًا ـ فقال‏:‏ ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 191 - 195‏]‏‏.‏

/ واستفهم ـ استفهام إنكار وجحود ـ لطرق الإدراك التام وهو السمع والبصر‏.‏ والعمل التام وهو اليد والرجل، كما أنه ـ سبحانه ـ لما أخبر فيما روى عنه رسوله عن أحبابه المتقربين إليه بالنوافل فقال‏:‏ ‏(‏ولا يزال عبدى يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه‏.‏ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها‏)‏‏.‏

 فصـل

وأهل السنة والجماعة المتبعون لإبراهيم وموسى ومحمد ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ـ يثبتون ما أثبتوه من تكليم اللّه، ومحبته، ورحمته، وسائر ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى‏.‏

وينزهونه عن مشابهة الأجساد التي لا حياة فيها، فإن اللّه قال‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏، فوصف الجسد بعدم الحياة، فإن الموتان لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، ولا يغني شيئًا‏.‏

وأما أهل البدع والضلالة ـ من الجهمية ونحوهم ـ فإنهم سلكوا / سبيل أعداء إبراهيم وموسى ومحمد، الذين أنكروا أن يكون اللّه كلم موسى تكليما واتخذ إبراهيم خليلا‏.‏ وقد كلم اللّه محمدًا، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ورفعه فوق ذلك درجات‏.‏

وتابعوا فرعون الذي قال‏:‏ ‏{‏يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36، 37‏]‏، وتابعوا المشركين الذين ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏، واتبعوا الذين ألحدوا في أسماء اللّه‏.‏

فهم يجحدون حقيقة كونه الرحمن، أو أنه يرحم، أو يكلم، أو يود عباده أو يودونه، أو أنه فوق السموات‏.‏ ويزعمون أن من أثبت له هذه الصفات فقد شبهه بالأجسام الحسية، وهى الحيوان كالإنسان وأن هذا تشبيه للّه بخلقه‏.‏

فهم قد شبهوه بالأجساد الميتة فيما هو نقص وعيب، وتشبيه دلت الكتب الإلهية والفطرة العقلية أنه عيب ونقص، بل يقتضي عدمه‏.‏

وأما أهل الإثبات،فلو فرض أن فيما قالوه تشبيها ما،فليس هو تشبيها بمنقوص معيب، ولا هو في صفة نقص أو عيب،بل في غاية ما يعلم أنه الكمال،وإن لصاحبه الجلال والإكرام‏.‏

/ فصار أهـل السنة يصفونه بالوجود وكمال الوجود، وأولئك يصفونه بعدم كمال الوجود، أو بعـدم الوجود بالكليـة‏.‏ فهم ممثلـة معطلـة؛ ممثلة في العقـل والشـرع، معطلـة في العقل والشرع‏.‏

أما في العقل؛ فلأنهم مثلوه بالعدم والأجساد الموتان‏.‏

وأما في الشرع، فإنهم مثلوا ما جاءت به الرسل من صفاته بنفس صفات المخلوقات ـ وإن كان هذا التمثيل الذي ادعوا أنه معنى النصوص أقل تـمثيلًا من تمثيلهم الذي ادعوه‏.‏

وأما تعطيلهم في العقل، فإنه تعطيل للصفات؛ تعطيل مستلزم لعدم الذات؛ ولهذا ألجئ كثير منهم إلى نفي الذات بالكلية، وصاروا على طريقة فرعون؛ لا يقرون إلا بوجود المخلوقات، وإن كانوا قد ينافقون فيقرون بألفاظ لا معنى لها، أو بعبادات لا معبود لها‏.‏

وأمـا تعطيلهم للشـرع، فـإنهم جحدوا مـا في كتب اللّه مـن المعانى وحرفوا الكلم عـن مواضعه، أو قالوا‏:‏ نحن كالأميين لا نعلم الكتاب إلا أمانى، أو‏:‏ قلوبنا غلف‏.‏

وقالوا ـ لِما جاء به الرسول من الكتاب والسنة ـ نظير ما قالته الكفار‏:‏ / ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ و‏{‏قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وهكذا قال هؤلاء‏:‏ لا نفقه كثيرًا مما يقول الرسول، وقالوا كما قال الذين يستمعون للرسول، فإذا خرجوا من عنده ‏{‏قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وصاروا كالذين قيل فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏

فتدبر ما ذكره اللّه عن أعداء الرسل، من نفي فقههم وتكذيبهم، تجد بعض ذلك فيمن أعرض عن ذكر اللّه وعن تدبر كتابه، واتبع ما تتلوه الشياطين وما توحيه إلى أوليائها، واللّه يهدينا صراطًا مستقيمًا‏.‏

ولهذا كانت هذه الجهمية المعطلة المشابهون للكفار والمشركين من الصابئة وغيرهم، الجاحدة لوجود الصانع أو صفاته، ترمى أهل العلم والإيمان والكتاب والسنة، تارة بأنهم يشبهون اليهود؛ لما في التوراة / وكتب الأنبياء من الصفات، ولما ابتدعه بعض اليهود من التشبيه المنفي عن اللّه، وتارة بأنهم يشبهون النصارى لما أثبتته النصارى من صفة الحياة والعلم، ولما ابتدعته من أن الأقانيم جواهر، وأن أقنوم الكلمة اتحد بالناسوت‏.‏

وهذا الرمي موجود في كلامهم قبل الإمام أحمد بن حنبل وفي زمنه، وهو موجود في كلامه وكلام أصحابه، حكاية ذلك ذكره في كتاب‏:‏ ‏[‏الرد على الجهمية والزنادقة‏]‏، وأنهم قالوا‏:‏ ‏[‏إذا أثبتم الصفات فقد قلتم بقول النصارى‏]‏، وَرَدَّ ذلك‏.‏ وفي مسائله‏:‏ أن طائفة قالوا له‏:‏ من قال‏:‏ ‏[‏القرآن غير مخلوق، أو هو في الصدور‏]‏ فقد قال بقول النصاري‏.‏

وهكذا الجهمية ترمي الصفاتية بأنهم يهود هذه الأمة‏.‏ وهذا موجود في كلام متقدمى الجهمية ومتأخريهم، مثل ما ذكره أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي الجهمي الجبري، وإن كان قد يخرج إلى حقيقة الشرك وعبادة الكواكب والأوثان في بعض الأوقات، وصنف في ذلك كتابه المعروف في السحر وعبادة الكواكب والأوثان‏.‏ مع أنه كثيرًا ما يحرم ذلك وينهى عنه متبعًا للمسلمين وأهل الكتب والرسالة‏.‏

وينصر الإسلام وأهله في مواضع كثيرة، كما يشكك أهله ويشكك غير / أهله في أكثر المواضع‏.‏ وقد ينصر غير أهله في بعض المواضع‏.‏ فإن الغالب عليه التشكيك والحيرة، أكثر من الجزم والبيان‏.‏

وهؤلاء لهم أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أن مشابهة اليهود والنصارى ليست محذورًا إلا فيما خالف دين الإسلام، ونصوص الكتاب والسنة، والإجماع‏.‏ وإلا فمعلوم أن دين المرسلين واحد، وأن التوراة والقرآن خرجًا من مشكاة واحدة‏.‏

وقد استشهد اللّه بأهل الكتاب في غير موضع، حتى قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏

فإذا أشهد أهل الكتاب على مثل قول المسلمين كان هذا حجة ودليلًا،وهو من حكمة إقرارهم بالجزية‏.‏ فيفرح بموافقة المقالة المأخوذة من الكتاب والسنة لما يأثره أهل الكتاب عن المرسلين قبلهم‏.‏ ويكون هذا من أعلام النبوة، ومن حجج الرسالة، ومن الدليل على اتفاق الرسل‏.‏

الثاني‏:‏ أن المشابهة التي يدعونها ليست صحيحة‏.‏ فإن أهل السنة / لا يوافقون اليهود والنصارى فيما ابتدعوه من الدين والاعتقاد؛ ولهذا قلت في بيان فساد قول ابن الخطيب‏:‏ إنه لم يفهم مقالة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم، ولم يفهم مقالة النصارى، وأوضحت ذلك في موضعه، كما بين الإمام أحمد الفرق بين مقالة أهل السنة وبين مقالة النصارى المبتدعة، وكما يبين الفرق بين مقالة أهل السنة ومقالة اليهود المبتدعة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه إذا فرض مشابهة أهل الإثبات لليهود أو النصارى، فأهل النفي والتعطيل مشابهون للكفار والمشركين من النصارى وغيرهم‏.‏ ومعلوم قطعًا أن مشابهة أهل الكتابين خير من مشابهة من ليس من أهل الكتاب، من الكفار بالربوبية والنبوات ونحوهم؛ ولهذا قيل‏:‏ المشبه أعشى، والمعطل أعمى‏.‏

ولهذا فرح المؤمنون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بانتصار النصارى على المجوس، كما فرح المشركون بانتصار المجوس على النصارى‏.‏ فتدبر هذا، فإنه نافع في مواضع، واللّه أعلم‏.‏

ولهذا كان المعتزلة ونحوهم من القدرية مجوس هذه الأمة‏.‏

وهم يجعلون الصفاتية نصارى الأمة ويميلون إلى اليهود لموافقتهم / لهم في أمور كثيرة أكثر من النصارى، كما يميل طائفة من المتصوفة والمتفقرة إلى النصارى أكثر من اليهود‏.‏

فإذا كان الصفاتية إلى النصارى أقرب وضدهم إلى المجوس والمشركين أقرب تبين أن الصفاتية أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين فرحوا بانتصار الروم النصارى على فارس المجوس، وأن المعطلة هم إلى المشركين أقرب، الذين فرحوا بانتصار المجوس على النصارى‏.‏